فصل: من فوائد ابن العربي في السورة الكريمة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من فوائد ابن العربي في السورة الكريمة:

قال رحمه الله:
سورة العلق فِيهَا خَمْسُ آيَاتٍ:
الْآيَةُ الأولى قوله تَعَالَى: {اقرأ بِاسْمِ رَبِّك الَّذِي خلق}: فِيهَا مَسْأَلَةٌ واحدة.
الْقول: فِي أَوَّلِ مَا نَزَلَ مِنْ القرآن، وَفِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ:
الأول: هَذِهِ السُّورَةُ؛ قالتْهُ عَائِشَةُ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ الزُّبَيْرِ، وَغَيْرُهُمْ.
الثَّانِي: أَنَّهُ نَزَلَ {يَأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ}؛ قالهُ جَابِرٌ.
الثَّالِثُ: قال علي بن أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَوَّلُ مَا نَزَلَ مِنْ القرآن: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ}.
الرَّابِعُ قال أَبُو مَيْسَرَةَ الْهَمْدَانِيُّ: أَوَّلُ مَا نَزَلَ فَاتِحَةُ الْكِتَابِ.
وَالصَّحِيحُ مَا رَوَاهُ الْأَئِمَّةُ وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا؛ قالتْ: «كَانَ أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ فِي النَّوْمِ، فَكَانَ لَا يرى رُؤْيَا إلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ، ثُمَّ حُبِّبَ إلَيْهِ الْخَلَاءُ، فَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءَ، فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ.
وَالتَّحَنُّثُ التَّعَبُّدُ اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ قَبْلَ أَنْ يَرْجِعَ إلَى أَهْلِهِ، وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إلَى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ بِمِثْلِ ذَلِكَ، حَتَّى فَجِئَهُ الْوَحْيُ، وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ، فَجَاءَهُ الْمَلَكُ فَقال: اقرأ، فَقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجُهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقال: {اقرأ بِاسْمِ رَبِّك الَّذِي خلق خلق الإنسان مِنْ علق} إلَى قوله: {عَلَّمَ الإنسان مَا لَمْ يعلم}.
فَرَجَعَ بِهَا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وَفُؤَادُهُ يَرْجُفُ؛ حَتَّى دَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ، فَقال: زَمِّلُونِي، فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ، فَقال لِخَدِيجَةَ: أَيْ خَدِيجَةُ، مَا لِي؟ لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي.
فَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ، فَقالتْ خَدِيجَةُ: كَلًّا، أَبْشِرْ.
فَوَاَللَّهِ لَا يُخْزِيك اللَّهُ أَبَدًا، فَوَاَللَّهِ إنَّك لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَصْدُقُ الْحَدِيثَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتُكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ.
فَانْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتَّى أَتت بِهِ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلٍ وَهُوَ ابْنُ عَمِّ خَدِيجَةَ أَخُو أَبِيهَا، وَكَانَ امْرًَا تَنَصَّرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعِبْرَانِيَّ، وَيَكْتُبُ الْإِنْجِيلَ بِالْعَرَبِيَّةِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكْتُبَ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ عَمِيَ، فَقالتْ خَدِيجَةُ: يَا بْنَ عَمِّ، اسْمَعْ مِنْ ابْنِ أَخِيك.
قال وَرَقَةُ: يَا ابْنَ أَخِي، ماذا تَرَى؟ فَأَخْبَرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خَبَرَ مَا رَأَى.
فَقال وَرَقَةُ: هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى مُوسَى، لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا، لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا إذْ يُخْرِجُك قَوْمُك.
قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ، قال وَرَقَةُ: نَعَمْ، لَمْ يَأْتِ أحد بِمَا جِئْتَ بِهِ إلَّا أُوذِيَ، وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُك حَيًّا أَنْصُرْك نَصْرًا مُؤَزَّرًا.
ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ وَرَقَةُ أَنْ تُوُفِّيَ، وَفَتَرَ الْوَحْيُ فَتْرَةً، حَتَّى حَزِنَ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم»
.
قال مُحَمَّدُ بْنُ شِهَابٍ: فَأَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيَّ قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يُحَدِّثُ عَنْ فَتْرَةِ الْوَحْيِ قال فِي حَدِيثِهِ: «بَيْنَا أَنَا أَمْشِي سَمِعْت صَوْتًا، فَرَفَعْت رَأْسِي، فَإِذَا الْمَلَكُ الَّذِي قَدْ جَاءَنِي بِحِرَاءَ جَالِسٌ عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، فَفَزِعْت مِنْهُ، فَرَجَعْت فَقُلْت: زَمِّلُونِي، دَثِّرُونِي، فَدَثَّرُوهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {يَأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّك فَكَبِّرْ وَثِيَابَك فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ}».
قال أَبُو سَلَمَةَ: وَهِيَ الْأَوْثَانُ الَّتِي كَانَتْ الْجَاهِلِيَّةُ تَعْبُدُهَا، ثُمَّ تتابَعَ الْوَحْيُ.
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قوله تَعَالَى: {خلق الإنسان مِنْ علق}: فِيهَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الإنسان مَخْلُوقٌ مِنْ الْعلق، وَأَنَّهُ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ علقةً لَيْسَ بِإِنْسَانٍ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ.
الْآيَةُ الثَّالِثَةُ قوله تَعَالَى: {الَّذِي عَلَّمَ بالقلم} فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ:
المسألة الأولى:
الْأَقْلَامُ فِي الْأَصْلِ ثَلَاثَةٌ: الْقَلَمُ الْأَوَّلُ كَمَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ: «أَوَّلُ مَا خلق اللَّهُ الْقَلَمُ، فَقال لَهُ: اُكْتُبْ، فَكَتَبَ مَا كَانَ وَمَا يَكُونُ إلَى يَوْمِ السَّاعَةِ، فَهُوَ عِنْدَهُ فِي الذِّكْرِ فَوْقَ عَرْشِهِ».
الْقَلَمُ.
الثاني: مَا جَعَلَ اللَّهُ بِأَيْدِي الْمَلَائِكَةِ يَكْتُبُونَ بِهِ الْمَقَادِيرَ وَالْكَوَائِنَ وَالْأَعْمَالَ، وَذَلِكَ قوله تَعَالَى: {كِرَامًا كَاتِبِينَ يعلمونَ مَا تَفْعَلُونَ} خلق اللَّهُ لَهُمْ الْأَقْلَامَ، وَعَلَّمَهُمْ الْكِتَابَ بِهَا.
الْقَلَمُ الثَّالِثُ أَقْلَامُ النَّاسِ، جَعَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى بِأَيْدِيهِمْ يَكْتُبُونَ بِهَا كَلَامَهُمْ، وَيَصِلُونَ بِهَا إلَى مَآرِبِهِمْ، وَاَللَّهُ أَخْرَجَ الْخلق مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِهِمْ لَا يعلمونَ شَيْئًا، وَخلق لَهُمْ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالنُّطْقَ حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ قَانُونِ التَّأْوِيلِ، ثُمَّ رَزَقَهُمْ مَعْرِفَةَ الْعِبَادَةِ بِاللِّسَانِ عَلَى ثَمَانِيَةٍ وَعِشْرِينَ وَجْهًا، وَقِيلَ حَرْفًا يَضْطَرِبُ بِهَا اللِّسَانُ بَيْنَ الْحَنَكِ وَالْأَسْنَانِ فَيَتَقَطَّعُ الصَّوْتُ تَقْطِيعًا يَثْبُتُ عَنْهُ مُقَطَّعَاتُهُ عَلَى نِظَامٍ مُتَّسِقٍ قُرِنَتْ بِهِ مَعَارِفُ فِي أَفْرَادِهَا وَفِي تَأْلِيفِهَا، وَأَلْقَى إلَى الْعَبْدِ مَعْرِفَةَ أَدَائِهَا، فَذَلِكَ قوله: {وَعَلَّمَك مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ}.
ثُمَّ خلق اللَّهُ الْيَدَ وَالْقُدْرَةَ، وَرَزَقَهُ الْعِلْمَ وَالرُّتْبَةَ، وَصَوَّرَ لَهُ حُرُوفًا تُعَادِلُ لَهُ الصُّوَرَ الْمَحْسُوسَةَ فِي إظْهَارِ الْمَعْنَى الْمَنْقول فِي النُّطْقِ، فَيُقَابِلُ هَذَا مَكْتُوبًا ذَلِكَ الْمَلْفُوظَ، وَيُقَابِلُ الْمَلْفُوظُ مَا تَرَتَّبَ فِي الْقَلْبِ، وَيَكُونُ الْكُلُّ سَوَاءً، وَيَحْصُلُ بِهِ الْعِلْمُ، {هَذَا خلق اللَّهِ فَأَرُونِي ماذا خلق الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ}.
المسألة الثَّانِيَةُ:
جَعَلَ اللَّهُ هَذَا كُلَّهُ مُرَتَّبًا لِلْخلق، وَنِظَامًا لِلْآدَمِيِّينَ،
وَيَسَّرَهُ فِيهِمْ؛ فَكَانَ أَقَلَّ الْخلق بِهِ مَعْرِفَةً الْعَرَبُ، وَأَقَلَّ الْعَرَبِ بِهِ مَعْرِفَةً الْحِجَازِيُّونَ، وَأَعْدَمُ الْحِجَازِيِّينَ بِهِ مَعْرِفَةً الْمُصْطَفَى صلى الله عليه وسلم صَرَفَهُ عَنْ عِلْمِهِ، لِيَكُونَ ذَلِكَ أَثْبَتَ لِمُعْجِزَتِهِ، وَأَقْوَى فِي حُجَّتِهِ.
المسألة الثَّالِثَةُ:
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ تَقْطِيعٌ فِي الْأَصْوَاتِ عَلَى نِظَامٍ يُعَبِّرُ عَمَّا فِي النَّفْسِ، وَلَهُمْ صُورَةٌ فِي الْخَطِّ تُعَبِّرُ عَمَّا يَجْرِي بِهِ اللِّسَانُ، وَفِي اخْتِلَافِ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ دَلِيلٌ قَاطِعٌ عَلَى رَبِّكُمْ الْقَادِرِ الْعَلِيمِ الْحَكِيمِ الْحَاكِمِ؛ وَأُمُّ اللُّغَاتِ وَأَشْرَفُهَا الْعَرَبِيَّةُ، لِمَا هِيَ عَلَيْهِ مِنْ إيجَازِ اللَّفْظِ، وَبُلُوغِ الْمَعْنَى، وَتَصْرِيفِ الْأَفْعَالِ وَفَأعلىهَا وَمَفْعُولِيّهَا، كُلُّهَا عَلَى لَفْظٍ وَاحد، الْحُرُوفُ واحدة، وَالْأَبْنِيَةُ فِي التَّرْتِيبِ مُخْتَلِفَةٌ، وَهَذِهِ قُدْرَةٌ وَسِيعَةٌ وَآيَةٌ بَدِيعَةٌ.
المسألة الرَّابِعَةُ:
لِكُلِّ أُمَّةٍ حُرُوفٌ مُصَوَّرَةٌ بالقلم مَوْضُوعَةٌ عَلَى الْمُوَافَقَةِ لِمَا فِي نُفُوسِهِمْ مِنْ الْكَلِمِ، عَلَى حَسْبِ مَرَاتِبِ لُغَاتِهِمْ، مِنْ عِبْرَانِيٍّ، وَيُونَانِيٍّ، وَفَارِسِيٍّ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ اللُّغَاتِ أَوْ عَرَبِيٍّ؛ وَهُوَ أَشْرَفُهَا، وَذَلِكَ كُلُّهُ مِمَّا عَلَّمَ اللَّهُ لِآدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَسْبَمَا جَاءَ فِي القرآن فِي قوله: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا}؛ فَلَمْ يَبْقَ شَيْءٌ إلَّا وَعَلَّمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ آدَمَ اسْمَهُ بِكُلِّ لُغَةٍ، وَذَكَرَهُ آدَم لِلْمَلَائِكَةِ كَمَا عُلِّمَهُ، وَبِذَلِكَ ظَهَرَ فَضْلُهُ، وَعَظُمَ قَدْرُهُ، وَتَبَيَّنَ عِلْمُهُ، وَثَبَتت نُبُوَّتُهُ، وَقَامَتْ حُجَّةُ اللَّهِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ، وَحُجَّتُهُ، وَامْتَثَلَتْ الْمَلَائِكَةُ لَمَّا رَأَتْ مِنْ شَرَفِ الْحَالِ، وَرَأَتْ مِنْ جَلَالِ الْقُدْرَةِ، وَسَمِعَتْ مِنْ عَظِيمِ الْأَمْرِ، ثُمَّ تَوَارَثَتْ ذَلِكَ ذُرِّيَّتُهُ خَلَفًا بَعْدَ سَلَفٍ، وَتَنَاقَلُوهُ قَوْمًا عَنْ قَوْمٍ، تَحْفَظُهُ أُمَّةٌ وَتُضَيِّعُهُ أُخْرَى، وَالْبَارِئُ سُبْحَانَهُ يَضْبِطُ عَلَى الْخلق بِالْوَحْيِ مِنْهُ مَا شَاءَ عَلَى مَنْ شَاءَ مِنْ الْأُمَمِ عَلَى مَقَادِيرِهَا وَمَجْرَى حُكْمِهِ فِيهَا، حَتَّى جَاءَ إسْمَاعِيلُ بْنُ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ وَتَعَلَّمَ الْعَرَبِيَّةَ مِنْ جِيرَتِهِ جُرْهُمًا، وَزَوَّجُوهُ فِيهِمْ، وَاسْتَقَرَّ بِالْحَرَمِ، فَنَزَلَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ فَعَلَّمَهُ الْعَرَبِيَّةَ غَضَّةً طَرِيَّةً، وَأَلْقَاهَا إلَيْهِ صَحِيحَةً فَصَيْحَةً سَوِيَّةً، وَاسْتَطْرَبَ عَلَى الْأَعْقَابِ فِي الْأَحْقَابِ إلَى أَنْ وَصَلَنَا إلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فَشَرُفَ وَشَرُفَتْ بالقرآن الْعَظِيمِ، وَأُوتِيَ جَوَامِعَ الْكَلَامِ، وَظَهَرَتْ حِكْمَتُهُ وَحُكْمُهُ، وَأَشْرَقَ عَلَى الْآفَاقِ فَهْمُهُ وَعِلْمُهُ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ.
المسألة الْخَامِسَةُ:
قال أَبُو الْمُنْذِرِ هِشَامُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنُ السَّائِبِ الْكَلْبِيُّ: أَوَّلُ مَنْ وَضَعَ الْخَطَّ نَفَرٌ مِنْ طَيِّئٍ، وَهُمْ صُوَارُ بْنُ مُرَّةَ؛ وَيُقال مِرَارُ بْنُ مُرَّةَ، وَأَسْلَمُ بْنُ سُدْرَةَ، وَعَامِرُ بْنُ خُدْرَةَ فَسَارُوا إلَى مَكَّةَ، فَتَعَلَّمَهُ مِنْهُمْ شَيْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ، وَهِشَامُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، ثُمَّ أَتَوْا الْأَنْبَارَ فَتَعَلَّمَهُ نَفَرٌ مِنْهُمْ، ثُمَّ أَتَوْا الْحِيرَةَ، فَعَلَّمُوهُ جَمَاعَةً، مِنْهُمْ: سُفْيَانُ بْنُ مُجَاشِعِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دَارِمٍ، وَولدهُ، يُسَمَّوْنَ بِالْكُوفَةِ بَنِي الْكَاتِبِ.
قال ابْنُ الْعَرَبِيِّ: الْكَلْبِيُّ مُتَّهَمٌ لَا يُؤَثِّرُ نَقْلُهُ، وَلَا يَصِحُّ مَا ذَكَرَهُ بِلَفْظِهِ مِنْ طَرِيقٍ يُعَوَّلُ عَلَيْهَا أَنَّ اللَّهَ عَلَّمَ الْخَطَّ بِالْعَرَبِيَّةِ، وَنَقَلَهُ الْكَافَّةُ فَالْكَافَّةُ حَتَّى انتهى إلَى الْعَرَبِ عَنْ غَيْرِهِمْ مِنْ الْأُمَمِ، فَيُمْكِنُ أَنْ يُقال: إنَّ أَوَّلَ مَنْ نَقَلَ الْخَطَّ إلَى بِلَادِ الْعَرَبِ فُلَانٌ.
وَأَمَّا أَنْ يُقال: أَوَّلُ مَنْ وَضَعَ الْخَطَّ فُلَانٌ، فَالْخَطُّ لَيْسَ بِمَوْضُوعٍ، وَإِنَّمَا هُوَ مَنْقول، وَقَدْ كَانَ قَبْلَ طَيِّئٍ بِمَا لَا يُحْصَى مِنْ السِّنِينَ عَدَدًا، فَأَمَّا وَضْعُهُ فَلَيْسَ لِأحد مِنْ خلق اللَّهِ وَلَا يَنْبَغِي لَهُ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ كَعْبٍ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ كَتَبَ الْكِتَابَ الْعَرَبِيَّ وَالسُّرْيَانِيَّ وَالْمُسْنَدَ، وَهُوَ كِتَابُ حِمْيَرَ، كَتَبَهُ آدَم عَلَيْهِ السَّلَامُ وَوَضَعَهَا فِي الطِّينِ وَطَبَخَهَا فَلَمَّا أَصَابَ الْأَرْضَ الْغَرَقُ، وَانْجَلَى، وَخلق اللَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ خلق وَجَدَتْ كُلُّ أُمَّةٍ كِتَابَهَا، فَأَصَابَ إسْمَاعِيلُ كِتَابَ الْعَرَبِ.
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ وَضَعَ الْكِتَابَ الْعَرَبِيَّ إسْمَاعِيلُ عَلَى لَفْظِهِ وَمَنْطِقِهِ كِتَابًا واحدًا، مِثْلَ الْأُصُولِ فَتَعَرَّفَهُ ولدهُ مِنْ بَعْدِهِ وَرُوِيَ عَنْ عُرْوَةَ: أَوَّلُ مَا وَضَعَ أَبْجَدِ هَوَّزْ حُطِّي كَلَمُنْ سعفص قَرَشَتْ، وَأُسْنِدَ إلَى عَمْرٍو.
وَهَذِهِ كُلُّهَا رِوَايَاتٌ ضَعِيفَةٌ لَيْسَ لَهَا أَصْلٌ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ فِيهَا، وَأَعْجَبُ مِنْ هَذَا أَنَّ الْقول فِي ذَلِكَ خَوْضٌ فِيمَا لَا يُعْتَمَدُ، وَلَا يَتَعلق عَلَيْهِ حُكْمٌ، وَلَا يَتَعلق بِهِ فَائِدَةٌ شَرْعِيَّةٌ، وَإِنَّمَا أَشَرْنَا إلَيْهِ لِيعلم الطَّالِبُ مَا جَرَى، وَيَفْهَمَ مِنْ ذَلِكَ الأولى بالدين وَالْأَحْرَى.
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ إسْمَاعِيلَ إنَّمَا تَعَلَّمَ الْعَرَبِيَّةَ مِنْ جُرْهُمٍ، حَسْبَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، فِي الْحَدِيثِ الطَّوِيلِ لِقِصَّةِ إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ وَذَكَرَهُ إلَى قوله: «فَكَانَتْ كَذَلِكَ هَاجَرُ حَتَّى مَرَّتْ بِهِمْ رُفْقَةٌ مِنْ جُرْهُمٍ مُقْبِلِينَ مِنْ طُرُقِ كَدَاءٍ أَوْ أَهْلُ بَيْتٍ مِنْ طَرِيقِ كَدَاءٍ، أَوْ أَهْلُ بَيْتٍ مِنْ جُرْهُمٍ، نَزَلُوا فِي أسفل مَكَّةَ، فَرَأَوْا طَائِرًا عَلَيْهِمَا فَقالوا: إنَّ هَذَا الطَّائِرَ يَدُورُ عَلَى مَاءٍ لَعَهْدُنَا بِهَذَا الْوَادِي وَمَا فِيهِ مَاءٌ، فَأَرْسَلُوا جَرِيًّا أَوْ جَرِيَّيْنِ فَإِذَا هُمْ بِالْمَاءِ، فَرَجَعُوا فَأَخْبَرُوهُمْ بِالْمَاءِ فَأَقْبَلُوا.
قال وَأُمُّ إسْمَاعِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عِنْدَ الْمَاءِ، فَقالوا: أَتَأْذَنِينَ لَنَا أَنْ نَنْزِلَ عِنْدَك؟ قالتْ: نَعَمْ، ولَكِنْ لَا حَقَّ لَكُمْ فِي الْمَاءِ.
قالوا: نَعَمْ.
قال ابْنُ عَبَّاسٍ: قال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: قالتْ ذَلِكَ أُمُّ إسْمَاعِيلَ وَهِيَ تُحِبُّ الْإِنْسَ، فَنَزَلُوا وَأَرْسَلُوا إلَى أَهْلِيهِمْ، فَنَزَلُوا مَعَهُمْ، حَتَّى إذَا كَانُوا بِهَا أَهْلُ أَبْيَاتٍ مِنْهُمْ، وَشَبَّ الْغُلَامُ، وَتَعَلَّمَ الْعَرَبِيَّةَ مِنْهُمْ وَأَنْفَسَهُمْ وَأَعْجَبَهُمْ حِينَ شَبَّ، فَلَمَّا أَدْرَكَ زَوَّجُوهُ امْرَأَةً مِنْهُمْ»
وَسَاقَ الْحَدِيثَ.
الْآيَةُ الرَّابِعَةُ قوله تَعَالَى: {أَرَأَيْت الَّذِي ينهى عَبْدًا إذَا صلى} فِيهَا مَسْأَلَتَانِ:
المسألة الأولى:
ثَبَتَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: أَنَّهُ لَمَّا قال أَبُو جَهْلٍ: لَئِنْ رَأَيْت مُحَمَّدًا لَأَطَأَنَّ عَلَى عُنُقِهِ.
فَقال مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم: «لَوْ فَعَلَ لَأَخَذَتْهُ الْمَلَائِكَةُ عِيَانًا» خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ.
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ أَيْضًا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قال: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي، فَجَاءَ أَبُو جَهْلٍ فَقال: أَلَمْ أَنْهَك عَنْ هَذَا؟ أَلَمْ أَنْهَك عَنْ هَذَا؟ فَانْصَرَفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَزَبَرَهُ، فَقال أَبُو جَهْلٍ: إنَّك لَتَعْلَمُ مَا بِهَا نَادٍ أَكْثَرَ مِنِّي، فَنَزَلَتْ: {فَلْيَدْعُ ناديه سَنَدْعُ الزبانية} فَقال ابْنُ عَبَّاسٍ: وَاَللَّهِ لَوْ دَعَا ناديه لَأَخَذَتْهُ زَبَانِيَةُ اللَّهِ.
المسألة الثَّانِيَةُ:
تَعلق بِهَا بَعْضُ النَّاسِ فِي مَسَائِلَ مِنْهَا: لَوْ رَأَى الْمَاءَ وَهُوَ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ مُتَيَمِّمًا؛ فَقال أَبُو حَنِيفَةَ وَغَيْرُهُ: يَقْطَعُ الصَّلَاةَ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَمَادَى عَلَيْهَا.
وَقال بَعْضُهُمْ: إنَّهُ يَدْخُلُ فِي الذَّمِّ فِي قوله: {أَرَأَيْت الَّذِي ينهى عَبْدًا إذَا صلى}.
وَهَذَا غَيْرُ لَازِمٍ؛ لِأَنَّ الْخِلَافَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ هَلْ يَكُونُ فِي صَلَاةٍ إذَا رَأَى الْمَاءَ فَلَا يَتَنَاوَلُهُ الذَّمُّ إلَّا إذَا كَانَتْ الصَّلَاةُ بَاقِيَةً، وَنَحْنُ قُلْنَا لَهُمْ: إذَا أَمَرْتُمُوهُ بِقَطْعِهَا بِرُؤْيَةِ الْمَاءِ فَقَدْ دَخَلْتُمْ فِي الْعُمُومِ الْمَذْمُومِ.
قالوا: لَا نَدْخُلُ؛ لِأَنَّا نَرْفَعُ الطَّهَارَةَ بِالتُّرَابِ بِمُعَارِضِهَا وَهُوَ رُؤْيَةُ الْمَاءِ.
قُلْنَا: لَا تَكُونُ رُؤْيَةُ الْمَاءِ مُعَارِضَةً لِلطَّهَارَةِ بِالتُّرَابِ، إلَّا إذَا كَانَتْ الْقُدْرَةُ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ مُقَارِنَةً لِلرُّؤْيَةِ، وَلَا قُدْرَةَ مَعَ الصَّلَاةِ، وَلَا تَبْطُلُ الطَّهَارَةُ إلَّا بِرُؤْيَةٍ مَعَ قُدْرَةٍ، فَمَانِعٍ فَبَقِيَتْ الصَّلَاةُ بِحَالِهَا.
وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ، وَبَيَّنَّا أَنَّ الْمَسْأَلَةَ قَطْعِيَّةٌ؛ لِأَنَّهَا تتعلق بِحُدُوثِ الْعَالَمِ.
الْآيَةُ الْخَامِسَةُ قوله تَعَالَى: {كَلًّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ واقترب} فِيهَا مَسْأَلَتَانِ:
المسألة الأولى:
قوله: {وَاسْجُدْ} فِيهَا طَرِيقَةُ الْقُرْبَةِ، فَهُوَ يَتَأَكَّدُ عَلَى الْوُجُوبِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، لَكِنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ سُجُودَ الصَّلَاةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ سُجُودَ التِّلَاوَةِ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ سُجُودُ الصَّلَاةِ، لِقوله: {أَرَأَيْت الَّذِي ينهى عَبْدًا إذَا صلى} إلَى قوله: {كَلًّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ واقترب}، لَوْلَا مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ رِوَايَةِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قال: سَجَدْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي: {إذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} وَفِي: {اقرأ بِاسْمِ رَبِّك الَّذِي خلق} سَجْدَتَيْنِ، فَكَانَ هَذَا نَصًّا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ سُجُودُ التِّلَاوَةِ.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ عَاصِمِ بْنِ بَهْدَلَةَ عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ، عن علي بْنِ أَبِي طَالِبٍ، قال: عَزَائِمُ السُّجُودِ أَرْبَعٌ: {الم تَنْزِيلُ} و{حم تَنْزِيلٌ مِنْ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} و{وَالنَّجْمِ} و{اقرأ بِاسْمِ رَبِّك}.
وَهَذَا إنْ صَحَّ يَلْزَمُهُ عَلَيْهِ السُّجُودُ الثَّانِي مِنْ سُورَةِ الْحَجِّ، وَإِنْ كَانَ مُقْتَرِنًا بِالرُّكُوعِ، لِأَنَّهُ يَكُونُ مَعْنَاهُ ارْكَعُوا فِي مَوْضِعِ الرُّكُوعِ، وَاسْجُدُوا فِي مَوْضِعِ السُّجُودِ.
المسألة الثَّانِيَةُ:
قوله: {واقترب}: الْمَعْنَى اكْتَسِبْ الْقُرْبَ مِنْ رَبِّك فِي السُّجُودِ فَإِنَّهُ أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ فِي سُجُودِهِ؛ لِأَنَّهَا نِهَايَةُ الْعُبُودِيَّةِ وَالذِّلَّةِ لِلَّهِ، وَلِلَّهِ غَايَةُ الْعِزَّةِ، وَلَهُ الْعِزَّةُ الَّتِي لَا مِقْدَارَ لَهَا، فَلَمَّا بَعُدْت مِنْ صِفَتِهِ قَرُبْت مِنْ جَنَّتِهِ، وَدَنَوْت مِنْ جِوَارِهِ فِي دَارِهِ.
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «أَمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبَّ، وَأَمَّا السُّجُودُ فَاجْتَهِدُوا فِيهِ فِي الدُّعَاءِ؛ فَإِنَّهُ قَمِنٌ أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ».
وَقَدْ قال ابْنُ نَافِعٍ، وَمُطَرِّفٌ: وَكَانَ مَالِكٌ يَسْجُدُ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ بِخَاتِمَةِ هَذِهِ السُّورَةِ، وَابْنُ وَهْبٍ يَرَاهَا مِنْ الْعَزَائِمِ. اهـ.